غلو طائفة من الحنفية في باب الإيمان والرد عليها
ثم أخذ يبين أن طائفة غلت من الحنفية، وأنها لا اعتبار لكلامها، فيقول: (لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما، بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه).فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: ليس كل الحنفية يعتقدون هذا، إذ هو غلو ونحن لا نقره، بل نحن معاشر الحنفية نرده ونرفضه. إذاً: من الغلو أن نقول: ما دام أن الإيمان شيء واحد وأنا مؤمن، فإذاً إيماني كإيمان جبريل أو ميكائيل أو غيره، وهذا كما في كتاب العالم والمتعلم المنسوب للإمام أبي حنيفة ولذلك ينبغي أن يسأله المتعلم: لماذا لا نكون سواء في الأجر ما دمنا آمنا بما آمنوا به؟!فهذا الكلام يرده ويرفضه الشيخ رحمه الله تعالى ويقول: لا يجوز لأحد أن يقول بأن إيمانه كإيمان جبريل، أو كإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولهذا عندما يقرأ أحد في أي كتاب من كتب العقيدة أقوال الأئمة في ذم المرجئة؛ فإنه يدخل فيهم: مرجئة الفقهاء الحنفية، ومن الأدلة على ذلك أنهم يذكرون أن الإمام البخاري رحمه الله في ترجمة ابن أبي مليكة نقل عنه أنه قال: [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق، ما منهم أحد يقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل] والمقصود أن هذه الكلمة غلو، وقد أصبحت كأنها علم، فمن قال: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، فهو مذموم عند السلف، ولا يمكن أن يقول ذلك أحد منهم، ولذلك نجد ذم هؤلاء في كتب العقيدة، كـالشريعة مثلاً للآجري ، و الإيمان لـأبي عبيد، أو الإيمان لـابن أبي شيبة، أو السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد أو اللالكائي وتذكر هذه العبارة على أنها من أوضح ما يدل على فساد مذهبهم، وهي قول بعضهم: إن إيماني كإيمان جبريل! فهم بنوا ذلك على النظرية الفلسفية، وإن لم يبينوا عنها في أول الأمر، لكن المتأخرين وضحوها، أي قال: إنني آمنت بمثل ما آمنوا به، وصدقوا بمثل ما صدقنا، كما قال المصنف: (كأنه أصل الإيمان، وأهله في أصله سواء) أي: كأن أصل الإيمان واحد وما عدا ذلك زيادة، وهذه الشبهة التي أوقعتهم في هذا، واشتد نكير السلف الصالح رضوان الله عليهم على هؤلاء القوم، وعظموا هذه البدعة، وما كانت المسألة مجرد قول أو قدح أو ذم، بل إنهم ردوا شهادتهم بها، والقاضي المعروف شريك بن عبد الله رحمه الله جاء إليه رجل من كبار أئمتهم ليشهد فقال: لا أقبل شهادته، فقالوا: لم؟ قال: لا أقبل شهادة من يقول: إن الصلاة ليست من الإيمان، بل إنهم هجروهم أيضاً، وبالتالي ليست المسألة مجرد أنهم ذموا المذهب، وإنما حتى الأفراد عاملوهم بالهجر وبترك الكلام معهم وترك مجادلتهم وترك قبول شهادتهم وغير ذلك؛ لأن هذا الكلام خطير، والقول به يستتبع أموراً لا يقرها من عرف حقيقة الإيمان، ولهذا المصنف رحمه الله يقول: (وهذا غلو منه)، أي: من هؤلاء القائلين، ثم وضح ذلك بقوله: (فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر) فهو ما أجابهم بأجوبة نقلية نصية، وإنما ذكر لهم مثالاً عقلياً، فقال: فإن الكفر مع الإيمان، أي: الكفر بالنسبة للإيمان كالعمى بالنسبة للبصر، فالناس يتفاوتون فيه، يقول: (ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه) ونسب التفاوت عند الأطباء معروفة، فمن الناس من يأخذ النسبة كاملة، ومنهم من يكون أقل، فالتفاوت موجود، فيقول: لا بد أن الإيمان كذلك، قال: (فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده) فهذا أمر معروف عند الناس، فمنهم ضعيف البصر جداً، ومنهم من هو أقل ضعفاً، لكن لا يكاد يرى إلا الواضحات، ومنهم من لا يقرأ إلا الخط الثخين، وآخر لا يقرؤه إلا بزجاجة، وقد كانوا قبل النظارات يستخدمون الزجاج ليكبر الخط، ومنهم من يرى عن قرب أكثر، ومنهم عن بعد، والمقصود أن تفاوت أهل البصر في الإبصار حقيقة واضحة، فكذلك الإيمان يتفاوت أهله فيه، والكفر هو الظلام، فكما أن بعض الناس لا يرى شيئاً مطلقاً، أي: يعيش في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، فكذلك هذا الكافر المطبق عليه كفره والعياذ بالله، ويوجد من هو أقل، أي: الذي خرج من حدود الكفر، ولكنه رانت على بصيرته الذنوب والمعاصي والشبهات والشهوات، فهو لا يكاد يرى إلا بصيصاً قليلاً، ومنهم من هو أحد منه، ومنهم من هو أكثر إلى أن يصبح ممن يرى أصغر أو أدق الأشياء بما اكتمل من إيمانه.